حسن الدّر- ليبانون تايمز
قبل الرّئاسة وقبل السّياسة، يوم كان نبيه برّي شابًّا مجاهدًا في صفوف حركة أمل، ويوم تولّى رئاسة الحركة، كان عرضة لحملات التّجنّي والتّشويه.
فالمسألة ليست مسألة فساد سلطة، ولا حرصًا على مال عام وانتظام مؤسّساتيّ، هذه أسلحة المرحلة، وكان لمراحل سابقة أسلحة مختلفة تتناسب مع الدّور والموقع.
قيل في الثّمانينات أنّ نبيه برّي علمانيّ، يحلق ذقنه ويلبس كرافات ويصافح النّساء، فلا يجوز أن يحمل أمانة الإمام موسى الصّدر وإرث الشّهداء، وأن يقود حركة جهاديّة!
وقيل في التّسعينات بأنّ نبيه برّي تخلّى عن المقاومة وانخرط بمشروع السّلام، طمعًا في السّلطة وأملًا بتثبيت دور متقدّم له باعتباره يمثّل خطًّا شيعيًّا معتدلًا!
قيل الكثير عن الرّجل ولم يرفّ له جفن، رغم قسوة الاتّهامات وخطورة الادّعاءات، لأنّه واثق من نفسه ومن حركته ومن أدائه الوطنيّ، ولو كان بين يدي مغرضيه دليل واحد على ادّعاءاتهم لمّا أخفوه، وهو ابن التّجارب الصّعاب، وابن بيئة ثقافيّة إيمانيّة راسخة، توقن أنّ الحقّ يعلو ولا يعلى عليه، وأنّ حبل الكذب قصير، والحقيقة تبقى حقيقة، مهما حاول الآخرون تشويهها.
بقي نبيه برّي كما هو، ثابتًا على مواقفه الوطنيّة وخياراته الاستراتيجيّة، وتغيّر الآخرون، حالفه كلّ الّذين أساؤوا إليه، وجاءه المسيئون معتذرين.. لم يحمل في قلبه ضغينة على واحد منهم، ولم يتصرّف بكيديّة، وهو يردّد دائمًا: “لا تجتمع السّياسة مع الحقد”، فصار بعد سنوات طوال من النّضال الوطنيّ، علامة الجمع شبه الوحيدة، في بلد الانقسامات المتعدّدة.
خطأ نبيه برّي أنّه لم يردّ على تلك الاشاعات والافتراءات، ولم يؤسّس لمنظومة إعلاميّة توضح الحقائق وتدحض الادّعاءات، بل تركها للزّمن، ربّما تأثّر بعض مناصريه، وخسر بعضًا من المزعزعة نفوسهم، لكنّه بقي رقمًا صعبًا في معادلة يتّكىء أطرافها على ارتباطات خارجيّة لا يخفونها، وهو الوحيد، باعتراف الجميع، الّذي لا يرتبط عضويًّا بأيّ دولة خارجيّة، رغم اعلانه الصّريح ببعده العربيّ والاسلاميّ، وانفتاحه على الغرب بما يحفظ كرامة لبنان وسيادته، من موقع الصّداقة لا التّبعيّة.
وفي ظلّ الحملات الممنهجة لتشويه صورة حركة أمل ورئيسها، والاتّهامات المتكرّرة بالفساد الاداريّ، وسرقة المال العام، يعاني الحركيّون من الواقع الاقتصاديّ والماليّ أشدّ معاناة، ولعلّهم الأكثر تأثّرًا، والأكثر فقرًا، فهل يصدّق اللّبنانيّون أنّ حركة بحجم حركة أمل تخوض انتخابات في كلّ المحافظات بصفر ميزانيّة؟! وهل يصدّق هؤلاء بأنّ ميزانيّة الشّعبة الحركيّة (بلدة أو مدينة) تعادل اليوم أقل من ٢٠ دولارًا في الشّهر؟!
وهل يقتنع المروّجون لفساد المؤسّسات الّتي تولّتها حركة أمل، بأنّ مجلس الجنوب، على سبيل المثال، الّذي بنى الجنوب والبقاع الغربي، وأنشأ بناه التّحتيّة من شبكات الصّرف الصّحّيّ وشقّ الطّرقات وتعبيدها، وبناء المدارس والمستشفيات وحفر الآبار الارتوازيّة وخزانات المياه وشبكاتها الّتي تصلّ إلى كلّ البيوت، هل يقتنعون بأنّ ذلك كلّه كلّف الدّولة قرابة مليار دولار فقط؟! وأنّ هذه المنشآت صارت ملكًا للدّولة ولم تسجّل مؤسّسة واحدة باسم حركة أمل أو أحد من مسؤوليها؟!
إذا كان هؤلاء يؤمنون بنظريّة “غوبلز” النّازيّة، فإنّ نبيه برّي يؤمن بنظريّة قرآنيّة “وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون”، وإذا كان جبران باسيل يعمل بمقولة “شمشمون” “عليّ وعلى أعدائي”، فليعلم بأنّه ليس شمشون الجبّار الّذي لا يقهر، وليس له أعداء سوى نفسه الّتي توسوس له، وبأنّ اللّبنانيين ليسوا أعداءه، وأنّ سلوكه العدوانيّ اتّجاه أقرب النّاس إليه وأبعدهم، هو الّذي أوصله إلى ما وصل إليه!
وإذا كان نبيه برّي قد قبل، على مضض، بوصول العماد عون إلى رئاسة الجمهوريّة، وعمل بكلّ ما أوتي من وطنيّة لينجح عهده، إيمانًا منه بتغليب الصّالح العام على المصلحة الشّخصيّة، فهذا لا يعني أن يقف مكتوف الأيدي أمام الحملة الّتي تشنّ عليه وعلى المقرّبين منه، ولو تصرّف عون وباسيل بنفس روحيّة برّي، لما وصلا إلى ما وصلا إليه من فشل وخيبة في كلّ المناحي السّياسيّة والاقتصاديّة والأمنيّة، فماذا سيكتب التّاريخ عن العهد القويّ؟! عن انفجار المرفأ الرّابع عالميًّا من حيث قوّته، أم عن الأزمة الاقتصاديّة والماليّة وانهيار العملة الوطنيّة، أم عن حراك ١٧ تشرين والـ “هيلا هيلا هو”، أم عن اذكاء الخطاب الطّائفيّ وتعميق الشّرخ المجتمعيّ وتوقيف مراسيم التّوظيف في الفئات الرّابعة والخامسة بحجّة التّوازن الطّائفيّ وغيرها من الاخفاقات الّتي لا مجال لعدّها؟!
قد يسجّل التّاريخ لميشال عون انهاءه للجمهوريّة الثّانية الّتي قامت أساسًا إثر حروبه العشواء أواخر الثّمانينات، يوم سلّمه أمين الجميّل الحكومة العسكريّة، فيكون بذلك بطل الفشل في إدارة الأنظمة الّتي يتسلّمها.
ارتكب باسيل أخطاءً فادحةً منذ تولّي عمّه رئاسية الجمهوريّة، وبدل أن يسعى لانقاذ ما يمكن انقاذه فيما تبقّى من العهد، يرتكب اليوم خطأً أكبر في هجومه على برّي، محاولًا تعويض ما خسره خارجيًّا من خلال العقوبات الأميركيّة بحرب خاسرة مع سيّد السّاحة الدّاخليّة، وإذا استمرّ في نهجه هذا، سيرى عمّا قريب بأنّ مواجهة أميركا سياسيًّا أهون عليه من مواجهة نبيه برّي، وسيدرك معه اللّبنانيّون جميعهم، نعمة وجود نبيه برّي بين ظهرانيهم..